فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، فأنزل الله عز وجل فيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُم} الآية.
قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام، عشرين عبدًا كلهم في يده مال، يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل.
وروى ابن إسحاق أيضًا أن العباس كان يقول: في نزلت، والله! حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي.
وروى ابن جريج عن عطاء بن عباس، أن عباسًا وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحن لك على قومنا، فأنزل الله تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية. قال، فكان العباس يقول: ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا، وأن لي الدنيا، لقد قال: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُم} فقد أعطاني خيرًا مما أخذ منى مائة ضعف. وقال: {وَيَغَفِرْ لَكُمْ} وأرجو أن قد غفر لي.
وروى البيهقي عن أنس قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين، فقال: «انثروه في مسجدي». قال، وكان أكثر ما أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى الصلاة، ولم يلتفت إليهم، فلما قضى الصلاة فجاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله! أعطني، فاديت نفسي، وفاديت عقيلًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذ»، فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله، فلم يستطع. فقال: مر بعضهم يرفعه إلي، قال: لا، قال: «فارفعه أنت علي»، قال: لا! فنثر منه، ثم احتمله على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه ببصره حتى خفي عنه، عجبًا من حرصه.
فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم. وفي رواية: وما بعث إلى أهله بدرهم. ورواه البخاري تعليقًا.
وفي رواية: فجعل العباس يقول وهو منطلق: أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا، وما ندري ما يصنع في الأخرى!. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}
الضمير في {يريدوا} عائِد إلى من في أيديكم من الأسرى.
وهذا كلام خاطب به اللَّهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم اطمئنانًا لنفسه، وليبلغ مضمونَه إلى الأسرى، ليعلموا أنّهم لا يغلِبون الله ورسوله.
وفيه تقرير للمنّة على المسلمين التي أفادها قوله: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبًا} [الأنفال: 69]، فكل ذلك الإذنُ والتطييب بالتهنئة والطمأنة بأن ضمن لهم، إنْ خانهم الأسرى بعدَ رجوعهم إلى قومهم ونكثوا عهدهم وعادوا إلى القتال، بأنّ الله يمكّن المسلمين منهم مرةً أخرى، كما أمكنهم منهم في هذه المرة، أي: أن يَنووا من العهد بعدم العود إلى الغزو خيانتَك، وإنّما وعدوا بذلك لينجَوا من القتل والرقّ، فلا يضرّكم ذلك، لأنّ الله ينصركم عليهم ثانيَ مرة.
والخيانة نقض العهد وما في معنى العهد كالأمانة.
فالعَهد، الذي أعطَوْه، هو العهد بأن لا يعودوا إلى قتال المسلمين.
وهذه عادة معروفة في أسرى الحرب إذا أطلقوهم فمن الأسرى من يخون العهد ويرجع إلى قتال من أطلقوه.
وخيانتهم الله، التي ذُكرت في الآية، يجوز أن يراد بها الشرك فإنّه خيانة للعهد الفطري الذي أخذه الله على بني آدم فيما حكاه بقوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} [الأعراف: 172] الآية فإنّ ذلك استقرّ في الفطرة، وما من نفس إلاّ وهي تشعر به، ولكنّها تغالبها ضلالات العادات واتّباع الكبراء من أهل الشرك كما تقدّم.
وأن يراد بها العهد المجمل المحكي في قوله: {دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما} [الأعراف: 189، 190].
ويجوز أن يراد بالعهد ما نكثوا من التزامهم للنبيء صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإسلام من تصديقه إذا جاءهم ببيّنة، فلمّا تحدّاهم بالقرآن كفروا به وكابروا.
وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله: {فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم}.
وتقديره: فلا تضرّك خيانتهم، أو لا تهتمّ بها، فإنّهم إن فعلوا أعادهم الله إلى يدك كما أمكنك منهم من قبل.
قوله: {فأمكن منهم} سكت معظم التفاسير وكتب اللغة عن تبيين حقيقة هذا التركيب، وبيان اشتقاقه، وألَمَّ به بعضهم إلمامًا خفيفًا؛ بأن فسروا (أمكنَ) بأقدَرَ، فهل هو مشتقّ من المكان أو من الإمكان بمعنى الاستطاعة أو من المكانة بمعنى الظفر.
ووقع في الأساس أمكنني الأمرُ معناه أمكنني من نفسه وفي المصباح مكنته من الشيء تمكينا وأمكنته جعلت له عليه قدرة.
والذي أفهَمه من تصاريف كلامهم أن هذا الفعل مشتقّ من المكان وأنّ الهمزة فيه للجعل، وأن معنى أمكنه من كذا جعل له منه مكانًا أي مقرًا، وأنّ المكان مجاز أو كناية عن كونه في تصرفه كما يكون المكان مَجالًا للكائن فيه.
ومن التي يتعدّى بها فعل أمكن اتّصالية مثل التي في قولهم: لستُ منك ولستَ منّي.
فقوله تعالى: {فأمكن منهم} حذف مفعوله لدلالة السياق عليه، أي أمكنك منهم يوم بدر، أي لم ينفلتوا منك.
والمعنى: أنّه أتاكم بهم إلى بدر على غير ترقّب منكم فسلّطكم عليهم.
{والله عليم حكيم} تذييل، أي عليم بما في قلوبهم حكيم في معاملتهم على حسب ما يعلم منهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}
ويوضح الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: لا توافقهم على ما يريدون، فهم إن أضمروا لك الخيانة فقد خانوا الله من قبل فمكنك منهم فلا تأمن لهم، وسبحانه يعلم ما في صدورهم.
وبعد أن تكلم سبحانه عن قصة بدر وأسرى بدر، والمواقف التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته في هذه القصة، أراد سبحانه وتعالى أن يصنف الأمة الإسلامية المعاصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عناصرها، ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاح بالدعوة الإسلامية في مكة، ومكة هي مركز سيادة العرب، وكانت قبيلة قريش هي سيدة جميع قبائل العرب وسيدة الجزيرة كلها، لأن قريشًا سيدة مكة، ومكة فيها بيت الله الحرام، وكانت كل قبيلة من قبائل العرب يكون بعض من أبنائها في بطن سيادة قريش خلال الحج، وما دامت كل قبيلة تذهب إلى مكة فهي تطلب حماية قريش، ولم توجد قبيلة تعادي قريشًا أو تجرؤ على مهاجمتها؛ لأنها تعلم أنه سيجيء يوم تكون فيه تحت حماية قريش وتحت رحمتها حين الحج إلى بيت الله الحرام.
إذن فسيادة قريش نشأت من وجود البيت. ولو أن هذا البيت لم يكن موجودًا لكان مركز قريش كمركز أي قبيلة من العرب، ولو أن البيت قد هدم من أبرهة، لكانت سيادة قريش قد انتهت. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1-5].
ثم تأتي بعدها مباشرة السورة الكريمة التي توضح لنا أن الله سبحانه وتعالى حين حفظ بيته وفتك بجيوش المعتدين فجعلهم كعصف مأكول، قد أكد هذه السيادة لقريش فيقول تبارك وتعالى في السورة التي سميت باسمها: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتاء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4].
إذن فالذي أعطى السيادة لقريش هو بيت الله الحرام. ولذلك تذهب قوافلهم بالتجارة لليمن والشام ولا يجرؤ أحد من القبائل أن يتعرض لها. ولو لم يكن بيت الله الحرام في مكة وقريش سادة مكة؛ لما كان لهم هذا الوضع المتميز والمكانة العالية، إذن فعز قريش في بيت الله الحرام، وأمنهم وسيادتهم في أنهم جالسون في راحة وتنتقل قوافلهم إلى الشام وإلى اليمن. ثم تعود محملة بالخير والربح وهم آمنون مطمئنون. وحين أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته كان ذلك الإعلان في مكة، وقد أعلنها صلى الله عليه وسلم في وجه الجبابرة وأقوياء الجزيرة العربية كلها.
ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدأ دعوته في قبيلة ضعيفة خارج مكة لقالوا: استضعفهم وغرر بهم، أو لقالوا يريدون به السيادة، أي أنهم كقبيلة مستضعفة لم يأخذوا رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمانا، ولكنهم أخذوها سلمًا ليسودوا بها الجزيرة العربية. ولكن شاء الحق تبارك وتعالى أن يكون ميلاد الرسالة في مكة وأول من سمعها هم سادة قريش؛ لتأتي في مركز السيادة ويكون المراد بها هو الحق، وإعلاءه في وجه سادة الجزيرة العربية.
ثم كانت المعركة بين سادة قريش والإسلام وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه وحاولوا إيقاف الدعوة بكل الطرق وشتى الحيل. لكن هل انتصروا؟ ثم هل امتد الإسلام وانتشر من مكة؟. لا، بل كانت الهجرة إلى المدينة، ومن هناك امتد الإسلام.
إذن فقد بدأ الإسلام من مكان السيادة في الجزيرة العربية، ولكنه انتشر من مكان لا سيادة فيه، لماذا؟ لأن الإسلام لو انتشر من مكة لقالوا: قوم ألفوا السيادة على الناس، وتعصبوا لواحد منهم؛ ليمدوا سيادتهم من الجزيرة العربية إلى أماكن أخرى في العالم. ولكن النصر جاء من المدينة لتعلم الدنيا كلها: أن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد، وهو الذي حقق النصر لمحمد، ولم يخلق العصبية لرسول الله أنه من قريش، أو أنه من قبيلة اعتادت سيادة الجزيرة العربية.
ويصنف الحق سبحانه وتعالى لنا المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهؤلاء منهم المهاجرون. ومنهم الأنصار، ومنهم جماعة مؤمنة لم يهاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم هاجروا بعد ذلك. ومنهم جماعة آمنوا ولم يهاجروا من مكة وبقوا فيها حتى الفتح.
إذن: هناك أربع طوائف: الذين هاجروا مع الرسول إلى المدينة، والأنصار الذين استقبلوهم وآووهم. وطائفة لم يهاجروا مع رسول الله ولكنهم هاجروا بعد ذلك، وطائفة بقيت في مكة حتى الفتح. اهـ.

.قال القرطبي في الآيتين:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} فيه ثلاث مسائل:
الأولى قوله تعالى: {يا أيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى} قيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقيل: له وحده.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: الأسرى في هذه الآية عباس وأصحابه.
قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسولُ الله، لننصحنّ لك على قومك؛ فنزلت هذه الآية.
وقد تقدّم بطلان هذا من قول مالك.
وفي مصنَّف أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة.
وعن ابن إسحاق: «بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم؛ ففدى كلّ قوم أسيرهم بما رضوا».
وقال العباس: يا رسول الله، إني قد كنت مسلمًا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك بذلك فأمّا ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو أخا بني الحارث بن فهر».
وقال: ما ذاك عندي يا رسول الله.
قال: «فأين المال الذي دفنته أنت وأمّ الفضل فقلتَ لها إن أصبتُ في سفري هذا فهذا المال لبني الفضل وعبد الله وقُثم»؟ فقال: يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا لشيء ما علمه غيري وغير أمِّ الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ذاك شيء أعطانا الله منك».
ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنزل الله فيه: {يا أيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى} الآية.